منوعات

يلا خبر | آخر ضوء «الحلقة الأخيرة» | المصري اليوم

اهلا بك عزيزى الزائر فى موقع يلا خبر الآن نقدم لك هذا الخبر من قسم منوعات نرجو ان ينال اعجابك.. والأن مع الخبر
2020-11-22 21:54:43

بمرور الأيام اقترب السجناء الجنائيون منا كثيرًا، والتفوا حول العم «عبد الغفور» وهو يعلمهم الأفكار التى نؤمن بها، بأسلوب بسيط، جعلهم يدركون فى النهاية أننا هنا فى هذه الغرف المفتوحة على الجحيم من أجلهم:

لهذا شاركونا بقوة احتفالنا بمرور أربعين يومًا على استشهاد أحد عمال الحديد والصلب أثناء اقتحام قوات أمن النظام للمصنع.

فأعددنا إذاعة داخلية، وبدأ «مرتضى زاهر» افتتاحها بكلمة شرح فيها ما جرى فى هذا المصنع، وكانت طريقته فى الإلقاء مؤثرة، لدرجة أن الجنائيين صمتوا بلا حراك، وسمعنا نشيجًا يأتى من بعض زنازينهم. وألقيت قصائد، كانت إحداها من نصيبى، فاستعدت قصيدة «إدوارد الخراط» التى أبدعها فى العام 1961 حين جاءه نبأ اغتيال «شهدى عطية»:

«مستقتلين..

ولا عمرنا نرمى السلاح من يدنا

مستموتين..

نضحك لأيام الجراح اللى ارتوت

من دمنا..

وإحنا كده

من صنع أهوال النضال

عد السنين من عمرنا

وإحنا كده

نبدر حياتنا على الطريق

ترويها أيام الضنا

تطرح هنا

لا جلادين.. ولا سفاحين

حيغيروا طعم الكفاح من بقنا».

وما إن انتهيت حتى ضجت الزنازين بالتصفيق، وسمعت «مرسيدس» يصرخ:

ـ يا دين النبى على الكلام الحلو.

وتبعه «أبو نسمة»:

ـ الله يفتح عليك يا جدع، كلامك خلّى دموعى تسح..

وأراد «وحيد خليل» أن يعزف على وتر الجنائيين أشد، فراح يمارس هوايته فى ترديد الهتافات التى برع فى ارتجالها أثناء المظاهرات، بسهولة شديدة، وكأنه يتجرع كوب ماء فى عز الهجيز. صرخ بصوته الطليق:

ـ اسمعوا يا رجال، ورددوا ورائى..

وجاء صوت الجنائيين:

ـ معك.. معك.

فصفق «وحيد» بيديه، وكأنه ينبه الجميع إلى أنه سيبدأ، ثم كوَّر كفيه ووضعهما أمام فمه، وراح يصرخ:

«أصل الوالى يا ناس مش دارى

بهم الفقرا فى الحوارى

شربوا الفقرا المر سنين

ياما ليالى باتوا جعانين

شربوا المر وشربوا القهر

وبيستلفوا طوال الشهر».

وما إن وصل إلى «وبيستلفوا طوال الشهر» حتى استغرق الجنائيون فى ترديدها بلا توقف. وكانت أصواتهم ممرورة شجية. وحين توقفوا قال «أبو حمادة»:

ـ ما جاء بنا إلى هنا غير «وبيستلفوا طول الشهر»… جاءت على الوجيعة يا أستاذ، الله ينور..

وقبل أن يختتم «مرتضى زاهر» الفقرة الإذاعية، سمعنا «أبو شوشة»، يصرخ:

ـ يا خلق يا هوووووه.. نحن معكم، ولنا كلام.

ثم نادى على «عادل»، وقال له:

ـ نختم بالنشيد القومى لعنبر الرجال.

وشنفنا آذاننا، نحن السجناء السياسيين، لنعرف ما هو النشيد القومى هذا، وبعضنا استعد ليصدح «بلادى.. بلادى، لك حبى وفؤادى» لكننا فوجئنا بصوت جهورى، مشروخ كأنه جؤار ذبيح، يصرخ:

«واحد يا ورد

اتنين يا فل

ثلاثة يا ياسمين

أربعة يا أجدع ناس معلمين

خمسة يا أفندية واختلاسات مالية

ستة يا زهرة شباب الحركة الوطنية

سبعة يا باشا

تمانية يا أجدع ناس حشاشة

تسعة يا شاكوش

عشرة والقضية طلعت فاشوش».

ولما انتهى ضحكنا جيمعًا من قلوبنا، وقال «وحيد خليل»:

ـ القضية فاشوش ونص

وكان الصول «مسعود» يتابع ما يصدر عن إذاعتنا بنفس راضية، فقد كنا نعرف حضوره. فى البداية خشينا أن يمنعنا، لكنه قال لـ«وحيد خليل»:

ـ افعلوا ما شئتم، لكن إن جاءنى خبر قدوم ضابط قسم التأديب الجديد ستؤمرون بالصمت، وستصمتون، ومن سأسمع صوته، سأكون مضطرًا لعقابه.

وانتهينا من كل شىء قبل أن يأتى الضابط، الذى كان الصول «مسعود» يتمنى أن يكون هينًا لينًا، ثم سمح لنا الصول بأن نفتح أبواب الزنازين، ونتقابل فى الردهات الضيقة المقبضة. وتصايحنا وتضاحكنا وتصافحنا، ووجدناه يقول لنا وفى عينيه دموع محبوسة:

ـ أنتم علماء وأطباء وصحفيون ومهندسون، فلماذا تُعرِّضون أنفسكم لكل هذا الخطر؟!

رد عليه «مرتضى زاهر»:

ـ نحن نكافح من أجل الغلابة.

قهقه حتى اهتز شارباه بعنف، وقال:

ـ أنتم هنا فى الزنازين، والغلابة هناك فى بيوتهم، ولا يشعرون بكم، ولو طلبنا منهم أن نشنقكم لأنكم مخربون لن يمانعوا أبدًا.

ثم نفخ، وانقبضت ملامحه وقال:

ـ أنتم ناس محترمون، فلا تضيعوا أنفسكم فى بلد لا فيه قانون ولا عدل.

سمعناه صامتين، وشردنا قليلًا فى كلامه، لكنا هززنا رؤوسنا لنسقطه منا على هذا البلاط القذر، وتحت هذه الجدران الكالحة. وشردت فرأيت صاحب الوجه الأحمر الذى تركنا على قارعات الطرق، يقف إلى جانب الصول «مسعود» مبتسمًا، فبدا معجبًا بكلامه.

أردت أن أصرخ فيه:

ـ اغرب عن وجوهنا.

لكننى رأيته ينسحب فى هدوء، متبعًا ظل الصول «مسعود» الذى أسرع الخطى نحو جندى يشير إليه من طرف الزنازين، بينما عيناه تتنقلان بين الردهة الضيقة والطريق الواسع الممتد تحت السور.

ما إن وصل «مسعود» إليه، حتى طوح يده فى الهواء نحو وجوهنا، وصرخ آمرًا:

ـ الضابط الجديد قادم، ادخلوا الزنازين بسرعة، ولا أريد أن أسمع لكم همسًا.

دخلت سريعًا، وأغلق الحارس الباب بقوة، فأزاح هواء حبيسًا حرك لجة العفن فزكمت أنفى. وقفت فى البقعة اليابسة التى أنكمش فيها ليلًا لأنام، وتناهت إلى سمعى زقزقة العصفور، فمددت عنقى من الفتحة المغبرة، وشخصت ببصرى فرأيته يفرد القش الذى جمعه برجليه، وينام عليه ببطنه حتى يسويه. كان يعمل بهمة، وهو سعيد، يرفرف بجناحيه ويزقزق، ويتلفت حوله مترقبًا المساحات الضيقة المفتوحة التى تحيط بالزنازين.

أخذنى العصفور، الذى يبنى عشه ويغنى، من كل أحد، وكل شىء، إلى أن فزعت بصوت صراخ مزع السكون. اقتربت من باب الزنزانة، وسألت الحارس عما يجرى، فقال فى صوت خفيض:

ـ الضابط الجديد جاء برزقه.

لم أفهم ما قاله، فواصلت السؤال:

ـ أى رزق؟

ـ ثلاثة من المساجين الجنائيين تعاركوا وأصيبوا جميعًا بعاهات مستديمة، وتم نقلهم إلى قسم التأديب.

ـ لعن الله الحماقة.

ـ تصارعوا على شاب مليح أتى إلى السجن حديثًا، كل منهم يريده لنفسه، وفى النهاية أخذه منهم المعلم «الدقش».. كلاب أنجاس.

واندلع سيل من الشتائم، وسمعنا دبيب أقدام على الأرض بقوة، وحناجر تصيح، واختلط الدبيب بالصياح، والشتائم بفرقعات أشياء تصفع أجسادًا عارية. هكذا رأيت ما يجرى من كوة النافذة، وشاهدت العصفور يفر فى اتجاه السور الخارجى.

وارتفعت خراطيم مياه وأحزمة جلدية وهراوات وعصى لبلابة وحطت بقوة على الأجساد العارية، وأصحابها يجأرون، وينبجس الدم منهم، ويتطاير على الأرض، ووجوه الجنود الذين كانوا منهمكين فى تعذيبهم بكل إخلاص، يشاركهم الضابط الجديد والصول «مسعود» الذى استعاد فى هذه اللحظة سيرته الأولى لدينا. وهكذا حتى سقطوا بلا حراك، فجروهم إلى الزنازين الانفرادية، ورموهم فيها، وأُغلقت عليهم الأبواب.

ولم يمر وقت طويل حتى بدأنا نسمع أنينًا مخلوطًا بنشيج حارق، واستعاد كل المساجين لحظات الألم الشديد التى عاشوها أثناء التعذيب وحتى اندملت الجروح، وجفت القروح.

ذهب الضابط، وفُتحت كل الزنازين ما عدا تلك التى ألقوا فيها الواردين الجدد، وخرجت أتلمس طريقى نحو الصول «مسعود» الذى طالما تمنيت أن أختلى به لأطرح عليه ما يؤرقنى أكثر هنا. وجدته يقف وحيًدا تحت الشجرة العجوز الماحطة، واقتربت منه، وكنت قد عرفت متى يكون رائق البال، وكان على هذه الحال، فسألته عن «عاصم شدَّاد».

تغضن وجهه بحزن عابر، سرعان ما طرده، وقال:

ـ مسكين، مات بلا ثمن.

تنحنحت، وقلت فى سرعة:

ـ الله يرحمه.

ودخلت إلى ما أريد أن أدخل إليه، وسألته مباشرة:

ـ هل تعرف شيئًا عن الرسالة التى تركها؟

أجاب بلا تردد:

ـ سلمها إلى «الشيخ عبد الباسط».

ـ أعرف، لكن «عبد الباسط» رفض اطلاعى عليها.

اتسعت حدقتاه، وتمدد شاربه، وحرك شفتيه الغليظتين، ثم سألنى:

ـ ولمَ تريد أن تطلع عليها؟

ابتلعت ريقى، وتمالكت نفسى، وقلت فى هدوء:

ـ لأن فيها ما يهمنى.

هز رأسه، وقال:

ـ غريبة، هو كان من الجماعات الدينية المتطرفة، وأنت شيوعى، فما الذى لمَّ الشامى على المغربى.

ـ كان زميلى فى الجامعة، ورسالته إلى سيدة أعرفها، وبوسعى أن أوصلها إليها، وأحقق له ما تمناه.

ـ تعرفها؟!

قالها وهو يغمس عينيه فى عينىَّ، فواريت عنه ناظرى، وقلت:

ـ كانت معنا فى الجامعة.. زميلته، و.. و.. وزميلتى.

حك ذقنه وقال:

ـ عمومًا، سأعرف ما جرى للرسالة، وأخبرك.

ثم غمز بعينيه كرجل خبير، قد فهم، على ما يبدو، أن ما يهمنى من هذه الرسالة، يزيد كثيرًا عن الزمالة، وأداء الأمانة، وتحقيق أمنيات شاب رحل، كنا دومًا على النقيض.

وانتظرته على جمر، وحين عاد فى اليوم التالى، رفعت وجهى إليه، وفى عينىَّ رجاء. اكتسى وجهه بدفقة أسى، واقترب منى، ورفع يده وحطها على كتفىَّ، وراح يسير بى نحو الشجرة العجوز.

كان قلبى يدق بسرعة، ووجيبه يرن فى أذنىَّ. وزاد الوجيب حين قال:

ـ كان بودى مساعدتك، لكن ما باليد حيلة.

تطلعت إليه مستفهمًا، فواصل:

ـ سَلَّم «الشيخ عبدالباسط» الرسالة إلى سيادة اللواء، مدير السجن.

ـ مدير السجن؟!!

ـ نعم، كنت أتوقع هذا، فرسالة من شخص مثل «عاصم شدَّاد» إلى أحد خارج السجن، لا بد أن نعرف ما فيها.

ـ لكنه ائتمن عليها «عبد الباسط».

قهقه، فاتسعت وجنتاه واهتز صدره، وقال:

ـ سأكشف لك ما لا تعرفه، «الشيخ عبدالباسط» رجلنا وسط المساجين، عيننا، وكل ما يعرفه يبلغه لإدارة السجن.

وكنت أعرف هذا من «أبوشوشة» لكن كان علىَّ أن أتعمد شعورى بالمفاجأة، فقلت له، بعد أن فغرت فمى إلى أقصى حد له:

ـ أهذا معقول؟!

ـ لولا أنه سيخرج نهائيًّا من السجن بعد ثلاثة أيام، ما كشفت لك هذا السر.

ثم امتلأ وجهه بابتسامة عريضة، وقال:

ـ ولولا أنك أيضًا قد اقتربت من الخروج ما قلت لك هذا.

فوجئت بما قاله هذه المرة، وسرى أمل فى شرايينى، وتراءت أمام عينىَّ فى لحظة الشوارع والمقاهى ومكاتب العمل والمصانع، وأطفال المدارس الذين ينهبون الأرض فى الصباح، وبائعو الخضار والفاكهة المتراصون فى السوق، ومحطات الحافلات المتكتظة بالركاب، وماسح الأحذية الوديع.

سألته بإلحاح:

ـ هل تعنى ما تقول؟

ـ رأيت قائمة بأسمائكم على مكتب مدير السجن، ستخرجون حقًا، ولا أريد أن أرى أيًا منكم هنا مرة أخرى.

فى اليوم التالى وجدنا الضابط قادمًا وفى يده ورقة، فتحها وقرأ أسماءنا، وأخذنا معه إلى عنابر «القسم الصناعى»، الأكثر اتساعًا، والتى فيها يمكن للفرد منا أن يقضى حاجته دون أن يرى الآخرون عورته.

كان علىَّ أن أفكر فى طريقة لاصطحاب الأوراق التى تملأ الحفرة فى زنزانتى، وهممت أن أقول للصول «مسعود» كى يساعدنى، لكننى ترددت، وعز علىَّ أن أتركها هنا، وهى كنز ثمين، بوسعه أن يساعدنى على تأليف كتاب غير مسبوق.

ورغم أننى أؤلف كتبًا فى الاقتصاد والإدارة، فقد راق لى أن يكون اسمى على كتاب مختلف، يمكن أن يبدأ بتدوين تجربتى فى السجون، مصحوبة بتجارب آخرين، مروا من هنا، وكابدوا. بعضهم زهقت روحه تحت وطأة التعذيب الشديد، وبعضهم حمل معه عاهة مستديمة فى جسده، وكل ما بقى منهم على قيد الحياة لم تسلم نفسه من آلام التجربة.

خفت أن أطلب من «مسعود» أن يعيننى، وكدت أفعل، وأنا أرى دموعه تترقرق فى عينيه وهو يقف على طرف طابورنا القصير الذى يستعد لمغادرة زنازين متعفنة إلى عنابر أقل عفونة. لكن لم يكن لدىَّ أى ثقة فى أن ضعفه حيال مهمته سيكون أكبر من ضعفه حيالى، وسيأخذ هذه الأوراق ويسلمها إلى مدير السجن.

وانحازت نفسى فى النهاية إلى خيار آخر، فما وجدته فى الزنزانة ليس لى، وإنما لمن كتبوه، وهم ربما فعلوا ذلك ليخففوا عن أنفسهم عناء السجن، ربما كانوا يتسلون، أو يتفنون فى التنفيس عن عذابهم بكتابة الأشعار والأزجال والحكايات والخواطر، فلا ينفجرون سأمًا وألمًا وغيظًا.

كانوا يروضون قسوة الوقت، ويربون الأمل، وهكذا فعلت أنا حين طالعت هذه الأوراق متلمسًا خيوط النور الشحيح التى كانت تأتينى من نوافذ ضيقة متربة، ومن حق الذين يتوالون بعدى على هذه الزنزانة أن يجدوا ما يُسرِّى عنهم، لكن، كيف لهم أن يهتدوا إلى هذا الكنز؟ وكيف لهم أن يحتفظوا به بعيدًا عن أعين إدارة السجن؟

قلت لنفسى:

«لنترك الأمر يمضى بلا ترتيب، كما جاءنى بلا تدبير منى».

ووجدتنى منشغلًا بذلك الذى لا أعرفه، وسيحل مكانى فى هذه الزنزانة، وتخيلته وهو مندهش حين تقع عيناه على الحفرة وأوراقها، وكيف سيبتسم بلا حد، حتى إنه قد يقوم ويرقص ليشارك العصفور فرحه، بعد أن يكون قد استقر طويلًا فى عشه الناعم.

وحين أعطانا الضابط فرصة لنلتقط أى شىء لنا تركناه فى الزنازين هرولت نحو زنزانتى. طلبت من الحارس أن يغلق الباب خلفى، وتذرعت له بأنى سأبدل ملابسى الداخلية. وبسرعة أزحت قطعة الأسمنت، بعد أن أزلت ما حولها من صابون، ورفعت البلاطة، وأخرجت «دفتر البفرة» الذى ملأته أنا كلمات، وكراسة «عاصم شداد»، أما البقية فقد تركتها فى مكانها، وأعدت البلاطة فوقها، ليعود كل شىء كما كان.

نقلونا إلى «قسم الصناعى»، فاستحممنا ولبسنا بعض ما بحوزتنا من ملابس نظيفة، وتصرفنا كأننا ذاهبون إلى رحلة ممتعة. رحنا نستعيد بعض حكاياتنا فى الأيام الفائتة. اندملت جروحنا، وغارت أوجاع أجسادنا، لكننا جميعًا كنا نضحك ضحكًا مجروحًا بقدر ما فى نفوسنا من ألم وفزع مما آلت إليه أحوالنا فى هذا البلد، بينما تسوء فى الدنيا بأسرها.

فى الليل جاءنا الصول «مسعود»، دخل عنبرنا ورفع وجهه فتخلل ضوء اللمبة شاربه فصار أبيضه أصفر. راح يُنقِّل عيينه فى عيوننا، كأنه يبحث عن أحد منا أو شيئًا معنا. لم يقلقنا مجيئه، فقد عرفنا أن خروجنا من هنا بات مفروغًا منه، كما أن الوداعة والإجهاد البادى على ملامحه- زادا من اطمئناننا.

كنا قد استلفنا سخانًا كهربائيًا من عنبر الجنائيين، وكان يزهر بخيوط حمراء مشتعلة تحت براد شاى صدئ، ونحن نتحلق حوله متلهفين فى انتظار رشفات ساخنة. قلنا له أن يجلس معنا ليشاركنا شرب الشاى، لكنه اعتذر بهدوء، وقال:

ـ أنا متعجل، لكن جئت لأفهمكم أن كل ما فعلته معكم أنا مجبور عليه.. أنا عبد مأمور، ولو كان الأمر بإرادتى، ما مددت يدى لأؤذى أحدًا منكم.

وهنا وقف «وحيد خليل»، وسار نحوه، ومد يده إليه وقال ضاحكًا:

ـ ليعاهد السجين السجان على ألا يصدقه أبدًا.

فانكمش وجه الصول «مسعود»، وقال:

ـ طالما طلبت من كل الذين كانوا هنا أن يسامحونى قبل أن يذهبوا.

وتطلعنا إليه صامتين، فواصل:

ـ أعرف أنكم مختلفون عن الجنائيين، هم لا نعذبهم إلا إذا أخطأوا أو ارتكبوا جرائم داخل السجن أو لنردعهم أحيانًا، أما أنتم فنعذبكم لأن هناك من يريد لكم ذلك، ولأن لديكم ما يريدون أن ينتزعوه منكم، أو أنهم يريدون كسركم بأى ثمن، لتخرجوا من هنا غير ما دخلتم.. يأتى الأمر من خارج السور وننفذه بلا تردد، وحين تخرجون قد تتصالحون مع من أمر بتعذيبكم، ووارد أن يصير بعضكم من أهل الحكم. وهنا يدفع أمثالى الثمن.. وأنا عريف، فى أول الطريق، عذبت أحد السياسيين، وصار بعد شهور قليلة وزيرًا، وحين رأيت صورته فى الجرائد وقرأت اسمه تحتها، لم أصدق، وركبنى خوف، ومن يومها تعلمت الدرس.

وعاد «وحيد خليل» إلى مكانه، وتطلع إلى العم «عبد الغفور»، الذى نظر إلى الصول «مسعود» وقال له:

ـ نحن نعرف أنك مجبور، ونسامحك على كل حال.

وكتمت أنا ضحكة كانت تريد أن تنفجر فى وجه الجميع، ووددت لو أخرجت لهم لسانى، فنحن سنخرج من هنا إلى الفراغ، ولن يكون بوسع أى منا سوى أن يكابد من أجل أن يكسب قوته وقوت أولاده. أما ما يعتقد فيه الصول «مسعود» فقد ولَّى زمنه. ولو أنه رأى «الرفيق الكبير» ذا الوجه الأحمر وهو يقف مطأطأ الرأس، ثم يتقهقر صامتًا إلى الوراء، ما تصور أبدًا أن أحدًا من الذين كانوا يصرخون تحت ضرباته الموجعة سيكون ذات يوم من أهل الحكم.

كتمت الضحك واقتربت منه، مكتفيًا بالقول:

ـ قلبك أبيض يا حضرة الصول.

وضع عينيه فى عينى، ففهمت أنه يقصدنى بشىء، فحاذيته، وأخذنى إلى خارج العنبر، وقال:

ـ كنت قبل قليل فى مكتب السيد اللواء مدير السجن، وسألته عن رسالة «عاصم شداد».. فعلت هذا لأننى فهمت أن الأمر يهمك، وأنا أحببتك، وأردت أن أقدم لك شيئًا.

ارتج قلبى، ونظرت إليه بامتنان ولهفة، فلم يتأخر علىَّ:

ـ سلم مدير السجن الرسالة إلى ضابط «أمن الدولة» ليتحرى بطريقته عن المرسلة إليها. هذا أمر طبيعى فى مثل هذه الحالات.

ارتعشت خوفًا على «أمينة»، وحنقت على «عاصم» الذى عرضها للخطر، لكن الصول «مسعود» أزال عنى الخوف والحنق معًا، حين واصل:

ـ ذهبت إلى الضابط وعرفت منه أن زملاءه قد أبلغوه أنها سيدة طيبة، لا شأن لها بالسياسة وأهوالها.

وبصوت خفيض، سألته:

ـ هل عرفت عنوانها؟

ـ لا، لكن عرفت أنها مطلقة، وترعى طفلين، ولد وبنت. كانت زوجة ضابط شرطة، وأساء معاملتها، ضربها وأهانها، خاصة حين كانت تنتابه حالات هياج عصبى شديد. دخل إلى مصحة نفسية، وعادت هى إلى بيت أبيها.

رقص فرح بين جوانحى، فاهتز جسدى عنيفًا، لتتساقط آلامه تحت قدمىَّ. دهستها وأنا أتقدم نحو الباب الخارجى للسجن، تملأ أذنىّ ثرثرة الرفاق، الذين بدأوا يختلفون حول ما يجب عليهم أن يفعلوه فى الأيام المقبلة.

لم أشأ أن أشاركهم فى أى شىء، وقبضت على دفترى وكراسة غريمى، ورفعت وجهى إلى البعيد، غارقًا بأسئلة تزاحمت فى رأسى، وأثقلت خطاى.

تدور فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى


—————————————-
إذا نال الخبر إعجابكم فشاركه مع اصدقائك لتعم الفائدة ولكى تدعمنا لنستمر
اذا كان لديكم مقترح فلا تنسى ان تتركة لنا فى تعليق

مصدر الخبر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

عطل الاضافة حتى تتمكن من متابعة القراءة