اهلا بك عزيزى الزائر فى موقع يلا خبر الآن نقدم لك هذا الخبر من قسم منوعات نرجو ان ينال اعجابك.. والأن مع الخبر
2020-08-23 23:21:40
سار الشعراء الصوفيون المحدثون على درب أجدادهم القدماء فيما يخص التشكيل اللغوى، ومحاولة استنطاق الحروف للكشف عن دلالات منسجمة مع ما يرمون إليه، من غير إغراق أو تعمية، بحيث تتموضع الكلمة مع ما يصاحبها من كلمات أخرى فى انسجام تام دون نبو أو حشو فى إطار مساحة الرقعة الشعرية على محيط الورقة البيضاء ناقلة إلى القارئ هموم الذات الشاعرة وتقلباتها. فهى تهدف إلى البناء فوق الموروث الشعرى عند القدماء، فقد سبق الحلاج وابن الفارض والنفرى وأبى حيان والسهروردى وغيرهم إلى ذلك اللون من التشكيل اللغوى اللعوب. ففى قوله:
كل العاشقين رعيتى
وأنا
من نقطة
فى قلبها طالع
عارفا أسودَ اللحظة
إلْفان
أليفان
ألفان
فالإلف والأليف والألف كلمات تنبع من معين صوتى واحد، مع اختلاف الدلالة لكل اسم، فالأول هو القرين من المودة والرحمة، والثانى من الأنس والمودة والقرب، والأخير أول حروف الأبجدية العربية، وبه أول الأشياء وبدايتها وأساس تكوينها. والمراد أن الأخت هى كل ذلك شكلا ومضمونا. وكذلك قوله:
عن حال حالى أغمضت حالى
وقلت يا بحر أين أنت
وعن عين عينى أغمضت عينى
وما رآنى سواك أنت
فخذ شفوفى.. شفا رحيلى
ورح لروحى ما ثم شىء
إلاكَ أنت
هام كلى بكل كلى
وبعض بعضى منكَ أنت
وما أردت سواكَ أنت
وقوله:
صورتك صادرة من صدرى لتصحو صباحاتها،
يداك قابضتان علىّ، باستطان أفلاكك وبروجكِ
وهنا نلحظ ترديدا لصوت الحرف (الصاد) مكررا فى كل كلمة من كلمات السطر الشعرى، وحرف الصاد من حروف الصفير فى اللغة العربية، وفيه حدة عند خروجه من مجرى الهواء الضيق، ومثل هذا الترديد بشكل سيمترى فى السطر الشعرى.
ومن ذلك أيضا إصراره على ترديد الحروف بشكل لافت، يمكنك استنباطه بسهولة ويسر فى كل سطر شعرى من سطور العمل برمته، مثل قوله:
لما رأيت برزخا من أمام
ومن وراء
رأيت بحرين يلتقيان
وأوارا لنور النور تكشف سرها
وتسأل سينك
أن تجىء
فقد تردد هنا حرف الراء ثمانى مرات فى مساحة ليست كبيرة على محيط الرقعة الشعرية، وهو من الحروف المجهورة، وفى ترديده هنا إيقاظ لضمير المتلقى وتنبيهه لجو أسطورى يصور برزخا، من أمام ووراء، وبحرين يلتقيان، وأورارا لنور النور، وكلها صور أسطورية تصور جانبا من جوانب الحياة الغيبية، حيث التقاء الأخت بالأم، وهى لحظة ميلاد أخرى.
وقوله:
قبل قبلى
كنت أين؟
وأين أينى الآن أين؟
فلا سواها ترد روحى
ولا سواىّ
يولد.
رمزية الحروف ودلالاتها:
للحروف فى العربية استخدامات لغوية وظيفية، ودلالات تعبيرية فنية، ورموز إشارية تواصلية. والحرف فى اللغة يعنى اللغة نفسها، ويعنى الجانب، ويعنى غير ذلك طبقا لسياق الكلمة، فهو فى قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (11) من سورة الحج. أى إذا لم ير ما يحب انقلب على وجهه، وفى حديث ابن عباس: أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف أى على جانب، وما جاء فى الحديث من قوله، عليه الصلاة والسلام: نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف، أراد بالحرف اللغة.
والحرف عند الصوفية حجاب، والحجاب حرف… والحرف يسرى حيث القصد جيم جنة وجيم جهنم… وفى الحرف الجهل والعلم،.. إنما خاطبت الحرف بلسان الحرف، فلا اللسان شهدنى، ولا الحرف عرفنى..، كما يقول النفرى (ت: 354هـ) فى استغراقاته الصوفية. إذًا فالحرف حمولة رمزية صوفية خارج نطاق الأبجدية المعروفة. فإذا كان الحرف فى الأجرومية هو الرابطة بين الاسم والاسم، أو الفعل بالفعل، فهو فى اللغة الصوفية رابطة أيضا لكنها رابطة وجوديّة ومدخل للتقريب بين العبد والرّب، أو بين الإنسان والإنسان.
وهنا تكمن الرؤية الفلسفية الصوفية للحروف باعتبارها رموزا اعتباطية، لكنها مقصودة وموجهة إلى جسد الإنسان، حيث يوجد فى جسم الإنسان ثمانية وعشرون عضوا على عدد الحروف العربيّة. وفى هذه الحكمة يكمن فضل اللّغة العربيّة على غيرها من اللّغات. ومن ثم وجدنا توازيا بين المعنى المعجمى للحروف ودلالاتها المعنوية والنفسية الجسدية عند الخليل بن أحمد الفراهيدى فى إشارته إلى وجوه الشبه بين الحروف العربية وجسد الإنسان
إن الشكل الكتابى للديوان سمة مميزة للكتابة الصوفية الحديثة، فقد اعتمد الشهاوى على شكلية الكتابة للديوان، فكتبه كله فى هيئة قصيدة واحدة، دون وضع عناوين جانبية أو أية عتبات أخرى تسهم فى فك شفرته المغلقة، معتمدا على قارئ واع بالفكر الصوفى وبطريقة كتابة الحروف واستخدام علامات الترقيم، متخذا من البياض فى الصفحة مدخلا لتقديم عمله. ومعتمدا على رمزية الحروف العربية لتحميلها مضامين صوفية عرف بعضها الشعر العربى القديم فى صورته التقليدية، وبعضها الآخر نابع من رمزية الحروف فى الكتابة الصوفية عند من سبقه، وعند معاصريه فى الوقت نفسه. وباستعراض الحروف العربية التى جاءت فى الديوان:
ترددت الحروف العربية فى الديوان (65) مرة، نال حرف الألف والسين والنون أعلى ترددات، حيث ورد حرف الألف (16) مرة، يليه حرف السين (15) مرة، ثم حرف النون (14) مرة.
حرف الحاء (7) مرات، يليه حرف الدال (6) مرات. أقل الحروف ترددا الكاف (3)مرات، والعين (2) فقط، وكل من اللام والميم مرة واحدة.
انتقى الشهاوى من الحروف العربية الثمانية والعشرين تسعة أحرف فقط هى: الألف والنون والسين والدال والحاء والعين والميم والكاف واللام. مما يدل على أن للشعر الصوفى لغة سرية باستخدامهم للحروف العربية نفسها، متخذين من غموض الحروف التى فى مستهل سور القرآن الكريم متكأ يستندون عليه فى سرية استخدامهم للحروف، وابتكار لغة خاصة بالصوفى شاعرا كان أو ناثرا. ومن ثم راحوا يرددون قول الله تعالى: «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» (109) من سورة الكهف. فى محاولة جادة منهم لترسيخ دعائم اللغة الخاصة ليبتعدوا عن اللغة العامة التى يفهمها الناس جميعا. وذلك ابتغاء أمرين: الأول فهم كتاب الله تعالى ومحاولة كشف أسراره بطريقتهم هم. الثانى: محاولة اعتزال الناس فى لغتهم، وتكوين لغة سرية يفهمها من ذاق فقط. وذلك لأن التصريح بهذه اللغة قد يسبب لهم ضررا بالغا يصل بهم إلى حد القتل. فـ«الحروف التى هى مظاهر تفصيلها، مجملة فى مداد الدّواة، ولا تقبل التّفصيل مادامت فيها، فإذا انتقل المداد منها إلى القلم تفصّلت الحروفُ به فى اللّوح وتفصّل العلْم بها إلى لا غاية، كما أنّ النّطفة التّى هى مادّة الإنسان مادامت فى ظَهْر آدم مجموع الصّور الإنسانيّة مجملة فيها ولا تقْبل التّفصيل مادامت فيها. ولمّا انتقلت إلى لَوْح الرّحِم بالقلم الإنسانيّ تفصّلت الصّورة الإنسانيّة». ومن هنا فالقلم عند الصوفى «عِلْم التّفصيل». والنّونُ «علْمُ الإجمال».
خلقتِ، فاستويتِ، وانشطرت نفوسكِ سبعًا
سَبْعُ جَوَاهِرَ تَخرُج مِنْكِ، فِى كُلِّ جَوْهَرَةٍ تَتَرَقَّى نُونٌ،
وَيَعْرُجُ ألِفٌ سَارِيًا فِى سَمَاوَاتِكْ. فِى وَصْل ألِفِى وَنُونِهَا
يَنْخلقُ البَدْءُ وَتَتَشَكَّلُ الآيَاتُ الأُولَى، وَيَكُون القَلَمُ
هُوَ مَسْرَى الرُّوحِ، ولَوحُه مَلَكٌ رُوحَانى
أَوَّلُ نُورٍ يَسْطَعُ.
فى سِنّهِ تَكٌونِينَ، وتَشْتَعِل نَوَالُ فِى نُونِهِ، مِنْكُمَا
تَبْدَأُ الفَاتِحَةُ، وَبِى نُعِيدُ للمَوْتِ تَارِيخَهُ.
عندما يصل الشاعر إلى أقصى درجة من الحرص والوعى الفنى فى استخدام الحروف العربية، فى موقف من أشد المواقف حساسية، يصوره الشاعر بمهارة مبدع واعيا لكل حرف من حروف جملته ولغته، وموظفا له توظيفا ينم عن إحساس عميق بدقة الاستخدام وجوهره. يبدأ الشاعر المقطع بفعل دال على الزمن الماضى (خلقتِ)، ودلالاته اللغوية هى الخلق، وهو فعل مستعار من حقل آخر، حقل يمكن أن يقبله العقل أو يرفضه، ولكنه هنا مقبول فنيا، وعقليا أيضا، فالشطح ظاهره مستشنع، وباطنه صحيح مقبول، فعند الدفن ندعو للمتوفى بأن يبدله الله زوجا خيرا من زوجه، وولدا خيرا من ولده، ودارا خيرا من داره..
ومن هنا يمكن للمعنى أن يستقيم، وإن كان الغموض يلف جسد المقطع برمته.
وفى مقطع آخر يتكئ الشاعر فيه على توظيف الحرف العربى، وتحميله دلالات مغايرة فيقول:
جَمَعْتِ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا
فى سِينكِ
سِيْنٌ هِيَ الغَيبُ أَو بَدْؤُهُ
اسْتوَيتِ عَلَى العَرْشِ
كُنْتِنِى
ذَاتُكِ عَيْنٌ
أَلِفُ الكَمَالِ أَنْتِهِ
لا حَدَّ لى
وَأَنْتِ فى بَرْزَخٍ
لا يَنتهِى خَطٌّ إِليكِ
بَدْءُ الشِّهَادةِ دَالِى
أنْتِ فَاعِلَةٌ
وَدَالُكِ لمْ تَكُنْ أَبَدًا دَلِيْلا للنِّهَايةِ
دَالٌ تَنَامُ لِتَفْتَحَ الدُّنيا
بسِينِ فَاتِحَتى
وحَاءُ أحْوَالى.
فحرف السين هو بداية الغياب والغيب، وذاتها حرف العين، والألف رمز به إلى حد الاكتمال، وحرف الدال هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وهو فى الوقت نفسه ليس دليلا للنهاية.. وهكذا يكون الحرف عند الشهاوى حرفا غير نمطى، فيحمله دلالات مختلفة طبقا لتحمل المعنى والسياق.. فليس للحرف عنده دلالة واحدة، واستخدام مفرد، فالحرف الواحد يحمل من الدلالات الرمزية ما يفوق الحصر، شريطة أن يصل الشاعر إلى المعرفة والكشف والتجلى، «لكن هذه المعرفة لا تتم مادام العارف واعيا أناه أو إنيته، بوصفها خارجا أو ظاهرا حياتيا متدرجا فى الآن اليومى. هذه الأنا هى، على العكس، عائق أمام المعرفة، لأن فرديتها حاجز يفصل بين العارف والمعروف. فلا يدرك الوجود حقا إلا بتجاوز هذه الأنا، حيث يزول الوعى بها».
أحمد فرحات
—————————————-
إذا نال الخبر إعجابكم فشاركه مع اصدقائك لتعم الفائدة ولكى تدعمنا لنستمر
اذا كان لديكم مقترح فلا تنسى ان تتركة لنا فى تعليق
مصدر الخبر